عناصر الموسيقى الأربعة: الحلقة الثانية - اللحن
للموسيقى عناصر أربعة أساسية تتكون منها المؤلفة الموسيقية ويخلق منها الملحن موسيقاه: الإيقاع واللحن والهارموني والطابع الصوتي. بالنسبة إلى المستمع العادي فإنه قد لا يتمكن من تمييز كل عنصر على حدة عند الاستماع إلى المقطوعة الموسيقية كاملة، ولكنه يستمع إلى النسيج الصوتي النهائي الذي يتشكل من هذه العناصر مجتمعة. أما بالنسبة للموسيقي أو حتى المستمع الذويق، فإن معرفة هذه العناصر والإلمام بها يعتبر أساسياً. نستعرض في هذه السلسلة نبذة مختصرة عن كل عنصر.
اللحن هو مجموعة من الأصوات المتتالية التي يخضع تنظيمها إلى رغبة المؤلف ويتم الاستماع إليها كنسيج واحد، أي أنه تتابع معين للنغمات بشكل مناسب يرضي الأذن، يعتمد على العلاقة بين الأصوات من حيث الحدة والغلظ، وفرق المسافة ما بين النغمة والتالية، إلى جانب طول إمتداد كل نغمة، وكل هذه الفروقات هي ما يعطي اللحن طعمه ولونه.
وجرى العُرف على أن تبدأ الألحان وتنتهي من درجة معينة تحدد مقام اللحن، وتبقى هذه الدرجة هي النغمة السائدة التي تعطي للحن الهوية الخاصة به.
كانت الاهتمامات المبكرة في تاريخ الإنسان باللحن متعلقة بأساليب التفاعل الاجتماعي، سواء كان التفاعل لفظي أو غير لفظي، فترتبط اللغة بشكل وثيق باللحن، لأن اللحن في الموسيقى كالجملة المفيدة في اللغة، وكلاهما يتكون من مجموعة من المفردات المتعلقة ببعضها البعض، بحيث تنتهي في حالة اللغة إلى معنى مفهوم، وفي حالة الموسيقى إلى تعبير ذي تأثير، باعتبار أن الكلمات هي مفردات اللغة والنغمات هي مفردات الموسيقى. وتم التأكد من تلك العلاقة الوثيقة من خلال دراسات هامة أجريت علي الثقافة المجرية، ويعود الفضل فيها للعالِمين الموسيقيين كوداي Kodaly ، وبارتوك Bartok.
وقد تزداد الصلة بين الموسيقى واللغة وضوحاً في مجال اللحن إذا تأملنا الأصول اللغوية للكلمة في اللغة الانجليزية. فأصل كلمة (Melody) هو الكلمتان اليونانيتان Melos وتعني النظام الشعري و Ote وتعني الغناء. وفي العصور الوسطى ظهرت الكلمة اللاتينية Melodia لتحمل تضمينات موسيقية خاصة استمرت حتى اليوم، مع محاولات متكررة للربط بين اللحن كمنظومة موسيقية والأغنية كمنظومة لغوية.
وفي القرن العشرين ظهر خلاف بين الباحثين في تفسير تركيب اللحن الموسيقي، فقد صاغ الباحث ثيودور ليبس Lippis نظرية يفسر بها التركيب الكلي للحن الموسيقي، وفيها يري أن بناء اللحن الذي يتألف من عناصر نغمية مختلفة لابد - ليكون لحناً – أن توجد فيه نغمة واحدة تُسمي النغمة المركزية، ولابد لباقي العناصر في اللحن أن تنتظم حول هذه النغمة المحورية أو المقامية (Tonality).
أما العالِم الألماني م.ماير M.Meyer، فقد عارض هذه النظرية في مقال نُشر له عام 1904، فيرى أن اللحن وحدة في ذاته، ولا يتطلب بالضرورة وجود نغمة مسيطرة ونغمات تابعة. وفسر ذلك بأننا ببساطة ندرك العلاقة بين النغمات التي تؤلف اللحن.
وقد توافرت أدلة كثيرة في مجال علم الموسيقى وعلم النفس تدعم فكرة كلية اللحن أو وحدته الجمالية، فتم الإشارة إلى خاصية هامة في اللحن تُسمى القُرب. فالتتابع والانتقال من نغمة لأخرى في اللحن بمسافات صغيرة يعطي للسلسلة النغمية وحدة وتماسك تستسيغهما الأذن بشكل أكبر، على عكس ما يحدث إذا كانت الفقرات أكبر والمسافات أوسع.
ومن المفارقات الهامة أنه يوجد قانون آخر يسمى الإغلاق (Closure)، وهو قانون يتعلق بالقفلات الخاصة بالألحان والشعور بانتهاء اللحن، ويعبر عن هذا الشعور بحركة هابطة في النغمات أو تتابع معين للنغمات يعطي شعوراً بالختام بحيث تبدو النهاية طبيعية، ويُرجع M.Meyer ذلك إلى عوامل فسيولوجية أهمها الشعور بالإجهاد، فالمسافات الصاعدة في رأيه تنتج مقداراً متزايداً من الإجهاد بينما المسافات الهابطة توحي بالاسترخاء، ولهذا فهي الأكثر تفضيلاً.
ومثلما نشعر أن التتابع اللحني الهابط أكثر قابلية للختام من اللحن الصاعد فإن الشعور بالقفلة قد يرجع إلي أن النغمة الأخيرة في الختام هي الأكثر تكراراً منذ بداية اللحن أو هي التي يتم التركيز عليها في بناء اللحن.
وبدأ استخدام الألحان في الموسيقي الشرقية عن طريق الترنم بالشعر الجاهلي وتطورت الألحان بعد ذلك لمصاحبة الغناء فكان الاهتمام الأكبر آنذاك للأصوات البشرية وليس للآلات الموسيقية. وهو بهذه الصفة أيضاً يعد ظاهرة إنسانية يمكن تقصي أصولها في عصور ما قبل التاريخ، إلا أنه في بعض الثقافات كانت للخصائص الإيقاعية الأولوية على طرق التعبير اللحني كما هو الحال في بعض مناطق أفريقيا.
هكذا يتبين أن الموسيقى لا تقوم إلا بتوأمي اللحن والإيقاع، يتكرران ويتشكلان بطرق مختلفة خلال انسياب الموسيقى، وأن أحدهما لا يقل أهمية عن الآخر، فالإيقاع يعطي الموسيقى معنى خاصاً بتكوينها وحيويتها، واللحن يعطيها معنى خاصاً بأثرها العاطفي.